تحليل واقع سوريا في 2025 من منظور التخطيط الحضري (سوريا بعين مخططة المدن)

تحليل واقع سوريا من منظور التخطيط الحضري (سوريا بعين مخططة المدن) هو خطوة ضرورية لفهم التحولات الجذرية التي شهدتها الجمهورية العربية السورية خلال العقدين الأخيرين، لا سيما منذ اندلاع الحرب في عام 2011، والتي أثّرت بشكل مباشر على مختلف جوانب الحياة في البلاد. فقد تدهور الاقتصاد، وانهارت أجزاء كبيرة من البنية التحتية، وتفاقمت الأزمات البيئية، كما تمزق النسيج الاجتماعي وتغيّر وجه المدن والبلدات السورية بشكل كبير. وفي ظل هذا الواقع المعقّد، أصبحت الحاجة ملحّة لإعادة التفكير في حاضر سوريا ومستقبلها من منظور شامل لا يكتفي برصد الأضرار، بل يسعى إلى فهم جذورها واقتراح حلول مستدامة.

شريحة 1 2
تحليل واقع سوريا من منظور التخطيط الحضري (سوريا بعين مخططة المدن)

وبصفتي خريجة في تخصص تخطيط المدن، أشعر بمسؤولية خاصة تجاه وطني الذي عانى كثيرًا. أؤمن بأن أي عملية إعادة إعمار حقيقية لا يمكن أن تبدأ من فراغ، بل يجب أن تسبِقها دراسة موضوعية للواقع، وتحليل علمي متوازن يساعد على وضع أسس واضحة للتخطيط الحضري القائم على العدالة الاجتماعية والمقاومة البيئية. ومن هنا، اخترت أن أبدأ هذا المشروع بتحليل شامل للوضع الحضري في سوريا ككل، قبل التطرق إلى دراسة المدن السورية بشكل منفصل.

أعتمد في هذه المرحلة على أداة التحليل الرباعي (SWOT)، وهي أداة تُستخدم لتقييم الوضع الراهن من خلال تحديد نقاط القوة والضعف، والفرص والتهديدات. يُتيح هذا التحليل فهماً متكاملاً ومترابطًا يساعد في بناء رؤية واقعية للتخطيط الحضري في سوريا، ليس فقط لمعالجة ما مضى، بل لاستشراف مستقبل أفضل يمكن أن تنهض فيه المدن السورية من جديد، على أسس أكثر عدلاً ومرونة واستدامة.

Contents show

نقاط القوة من منظور التخطيط الحضري (Strengths)

الإرث التاريخي والثقافي الغني

من وجهة نظري كمخططة مدن، أرى أن أحد أبرز نقاط القوة من منظور التخطيط الحضري في سوريا هو الإرث التاريخي والثقافي العريق، الذي لا يزال حيًّا رغم كل ما مرّت به البلاد من دمار ونزاع. سوريا ليست مجرد مساحة جغرافية على الخريطة، بل هي موطن من أقدم مواطن الحضارات الإنسانية في العالم، حيث تعاقبت عليها حضارات كالأرامية، والآشورية، والرومانية، والبيزنطية، والإسلامية. مدن مثل تدمر، دمشق، حلب، وبصرى الشام تحمل في طياتها آثارًا تعود لآلاف السنين، وتجعل من سوريا بأكملها كأنها متحف مفتوح.

1

دمشق، على سبيل المثال، تُعد أقدم عاصمة مأهولة في العالم، وتحتضن معالم بارزة مثل الجامع الأموي، وسوق الحميدية، والبيوت الدمشقية القديمة التي تعكس أصالة العمران الشرقي.

2

أما حلب، فرغم الدمار الكبير الذي لحق بها، لا تزال تحمل في عمقها إرثًا غنيًا من الأسواق القديمة، والخانات، وقلعتها الشهيرة التي تُعد من أكبر القلاع في العالم.

3

تدمر، من جهتها، شاهدة على مجد حضارة عظيمة لا تزال آثارها تروي قصصًا عن عصور عظيمة، ومن آثارها قلعة فخر الدين المعني في تدمر الأثرية، بينما تبقى قلعة الحصن في حمص من أبرز رموز الهندسة العسكرية في العصور الوسطى.

أؤمن تمامًا أن هذا التراث الغني ليس فقط مصدر فخر واعتزاز، بل يمكن أن يشكّل مستقبلًا ركيزة اقتصادية متينة، من خلال تطوير قطاع السياحة الثقافية والتراثية. لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب تخطيطًا حضريًا واعيًا وشاملًا، يراعي السياق التاريخي ويحمي هذه الكنوز، لضمان استدامتها كجزء حيّ من هوية المدن السورية، ولتبقى حاضرة في ذاكرة الأجيال القادمة وفي صلب مستقبل سوريا الحضري.

الموقع الجغرافي الاستراتيجي ضمن إطار التخطيط الحضري

كخريجة تخطيط مدن، أعتبر أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي ضمن إطار التخطيط الحضري يُشكّل واحدًا من أهم عناصر القوة التي يمكن أن تبني عليها سوريا مستقبلها الاقتصادي والحضري. فموقع سوريا الفريد عند نقطة التقاء ثلاث قارات: آسيا، أوروبا، وأفريقيا، يجعل منها مركزًا طبيعيًا للتواصل والتبادل، سواء عبر البر أو البحر، في قلب منطقة الشرق الأوسط.

موقع سوريا الجغرافي

هذا الموقع لم يكن يومًا مجرد جغرافيا، بل هو إمكانات كامنة يمكن أن تتحوّل إلى محرك تنموي حقيقي، إذا ما تم توجيه التخطيط الحضري نحو تعزيز قطاعات البنية التحتية، والنقل، والخدمات اللوجستية. فمثلًا، ميناء اللاذقية يُعد من أبرز الموانئ السورية، وأراه قادرًا على لعب دور محوري في حركة تجارة الترانزيت، إذا ما جرى تطويره بما يتماشى مع المعايير العالمية المعتمدة في الموانئ الإقليمية والدولية.

فضلًا عن ذلك، تتميز سوريا بوجود عدد من المعابر الحدودية الحيوية مع دول الجوار مثل العراق، ولبنان، والأردن، وتركيا، ما يفتح أمامها آفاقًا واسعة لتكون منصة إقليمية متقدمة في مجالات التجارة، والصناعة، والنقل. لكن تحقيق هذا الدور الاستراتيجي يظل مشروطًا بعودة الاستقرار السياسي والأمني، وبتبني رؤية حضرية مدروسة تستثمر هذه الميزة الجغرافية ضمن إطار متكامل للتنمية المستدامة.

image 1 3 edited

الموارد الزراعية والطبيعية في سوريا 2025

رغم سنوات الحرب الطويلة وما خلّفته من دمار، ما زلت أرى أن الموارد الزراعية والطبيعية في سوريا 2025 تُعد من أبرز نقاط القوة التي يمكن البناء عليها في أي رؤية مستقبلية للتخطيط الحضري. فرغم التحديات، لا تزال البلاد تحتفظ بثروات طبيعية وزراعية هامة، تشكّل أساسًا حيويًا لأي خطة تنموية شاملة.

نهر الفرات في سوريا

image 1
تحليل واقع سوريا في 2025 من منظور التخطيط الحضري (سوريا بعين مخططة المدن) 1

الموارد الزراعية والطبيعية في سوريا…

نهر الفرات، الذي يمر عبر محافظات الرقة ودير الزور، ما زال يشكّل شريانًا أساسيًا للري والزراعة، إلى جانب نهر العاصي ونهر الخابور. ومن خلال تجربتي الأكاديمية، أعتبر أن محافظات مثل الحسكة، دير الزور، ريف حماة، والسويداء، تُمثل ركائز الإنتاج الزراعي في سوريا، لما تنتجه من محاصيل استراتيجية كـالقمح، والشعير، والقطن، والزيتون، وهي محاصيل لا غنى عنها في الأمن الغذائي المحلي.

أما من حيث الثروات الطبيعية، فتمتلك سوريا احتياطات معتبرة من النفط والغاز الطبيعي، خاصة في شمال شرق البلاد، إضافة إلى كميات كبيرة من الفوسفات، لاسيما في مناطق مثل تدمر. ووفقًا لتقارير هيئة الطاقة السورية الصادرة قبل عام 2011، كانت سوريا تنتج أكثر من 380 ألف برميل نفط يوميًا، وهو رقم يعكس الإمكانات الكامنة في هذا القطاع إذا ما أُعيد تفعيله في ظل إدارة فعالة.

كما أنني أؤمن بأن جبال الساحل والبادية السورية ما تزال تخفي في باطنها ثروات معدنية لم تُستكشف أو تُستثمر بعد كما يجب، وهو ما يفتح الباب أمام فرص مستقبلية ضخمة إذا ما تم دمج هذه الإمكانات في إطار التخطيط الحضري القائم على الاستدامة.

لكن، فإن هذه الموارد، على أهميتها، لا يمكن أن تُحدث تغييرًا حقيقيًا ما لم تُدار بطريقة عادلة ومستدامة، تضمن استمراريتها للأجيال القادمة، وتُحقق توازنًا حقيقيًا بين المتطلبات الاقتصادية من جهة، والحفاظ على البيئة من جهة أخرى.

القوة السكانية الشابة ضمن التخطيط الحضري المستقبلي

رغم المآسي العميقة التي سببتها الحرب، وما نتج عنها من موجات هجرة ونزوح داخلي وخارجي، ما تزال سوريا تحتفظ بنسبة كبيرة من السكان من فئة الشباب. وبصفتي شابة سورية، أرى أن القوة السكانية الشابة ضمن التخطيط الحضري المستقبلي تمثل نقطة محورية يمكن البناء عليها في إعادة رسم ملامح البلاد من جديد.

فبحسب تقديرات الأمم المتحدة، يُشكّل الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا ما يقارب 60% من إجمالي عدد السكان، وهذا الرقم – بالنسبة لي – ليس مجرد إحصائية، بل مصدر أمل حقيقي يعكس طاقة كامنة تنتظر من يكتشفها ويستثمرها بالشكل الصحيح.

الشباب هم عماد أي نهضة قادمة، لما يتمتعون به من طاقة، ومرونة، وقدرة على التكيّف مع المتغيرات، والتفاعل مع التقنيات الحديثة.

3 1

لقد أثبت كثير من الشباب السوريين اليوم تفوقهم في مجالات متنوعة مثل البرمجة، والهندسة، والطب، والعمارة، وريادة الأعمال، سواء داخل البلاد أو في بلدان المهجر، مما يعكس قدرتهم الفعلية على إحداث تغيير إيجابي إذا تم تمكينهم بالشكل الصحيح.

وأنا أؤمن أن الاستثمار في هذه الفئة يجب أن يتم عبر تطوير منظومة التعليم، وبناء القدرات، وتمكينهم من لعب أدوار فاعلة في عمليات التخطيط الحضري واتخاذ القرار. حينها فقط، سيكون بإمكانهم قيادة سوريا نحو مستقبل يتسم بالعدالة، والاستقرار، والابتكار، والتنوع.

بناءً على ما سبق، أرى أن هذه القوة السكانية الشابة، رغم كل التحديات، تمثّل أحد الأعمدة الأساسية لأي استراتيجية حضرية طويلة الأمد، تهدف إلى إعادة بناء سوريا بروح جديدة، قائمة على الاستدامة والمشاركة والعدالة الاجتماعية.

نقاط الضعف من منظور التخطيط الحضري (Weaknesses)

الدمار شبه الكلي للبنية التحتية

image 1 2

من خلال متابعتي الشخصية للأخبار المتعلقة بالأوضاع الراهنة في المدن السورية، واهتمامي كمخططة مدن بالواقع الحضري، أستطيع القول إن أحد أبرز نقاط الضعف من منظور التخطيط الحضري في سوريا هو الدمار شبه الكامل للبنية التحتية في معظم المدن. لقد تركت الحرب وراءها مشهدًا عمرانيًا منهكًا ومشوّهًا، حيث لا تزال الأنقاض والركام تغطّي الشوارع والأحياء، ما يُعيق حركة المشاة والمركبات، ويُشكّل تحديًا كبيرًا أمام أي محاولة لإعادة الإعمار أو استعادة الحياة الحضرية الطبيعية.

الطرقات، سواء الرئيسية أو الفرعية، تعاني من حفر عميقة وتشققات تجعلها غير سالكة في كثير من الأحيان.

1 12

تخطيطها الأساسي نفسه يعاني من مشاكل بنيوية خطيرة. بعض الشوارع ضيقة أو مغلقة بالكامل بسبب البناء العشوائي أو الانهيارات، مما يعيق مرور سيارات الإسعاف والإطفاء، ويُهدد حياة السكان، خاصة في المناطق المكتظة. هذا الانهيار في البنية المرورية يعكس غيابًا واضحًا للتخطيط الطارئ والوقائي، ويزيد من هشاشة المدن في مواجهة أي أزمة مستقبلية.

أما على صعيد الكهرباء، فالوضع لا يقل سوءًا. الشبكة العامة غير مستقرة، والانقطاعات الطويلة باتت جزءًا من الحياة اليومية لمعظم السوريين. ظهرت ألواح الطاقة الشمسية كبديل جزئي، لكنها لا تمثّل حلًا متاحًا للجميع؛ إذ إن تكلفتها المرتفعة تمنع كثيرًا من العائلات من اقتنائها، وحتى عند توفرها، فهي لا تغطي تشغيل الأجهزة الأساسية مثل البرادات والغسالات، ما يدفع كثيرين للجوء إلى وسائل بدائية أو غير آمنة لتأمين احتياجاتهم من الطاقة.

الوضع في قطاعي الصحة والتعليم لا يختلف كثيرًا. المشافي الكبرى إما دُمّرت أو تعمل بطاقة دنيا دون كوادر أو تجهيزات كافية. المراكز الصحية في الأرياف والمناطق المهمشة تعاني من نقص المعدات، وتعمل في ظروف قاسية. كذلك تحوّلت العديد من المدارس إلى ملاجئ للنازحين، أو تهدّمت، فيما المدارس العاملة تفتقر إلى الحد الأدنى من التجهيزات، وتقدّم تعليمًا في بيئة نفسية وبنيوية غير مؤهلة.

حتى شبكات المياه والصرف الصحي تعاني من تهالك أو تعطّل.

1721801394942

في بعض الأحياء لا تصل مياه الشرب إلا بشكل متقطع، ما يجبر الأهالي على الاعتماد على خزانات أو آبار غير مراقبة صحيًا. أما الصرف الصحي، ففي كثير من المناطق إمّا تعرض للدمار أو لم يُصنّف كأولوية في الصيانة منذ سنوات، ما أدى إلى تسرّب المياه الملوثة وانتشار الأمراض والروائح الكريهة.

وبناءً على كل ما سبق، فإنني أؤمن بأن هذا الانهيار الواسع للبنية التحتية لا يمكن مواجهته إلا من خلال خطة إعادة إعمار شاملة، عادلة ومستدامة، تتضمن إصلاح الطرق، وشبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، وإعادة تأهيل المرافق الصحية والتعليمية، ضمن رؤية تخطيطية تراعي البُعد البيئي والاجتماعي والاقتصادي، وتضع كرامة الإنسان في صلب أولويات الإعمار الحضري.

الفوضى في التخطيط العمراني وتدهور توزيع الطرق والخدمات في سوريا 2025

كخريجة تخطيط مدن، يلفت انتباهي بشدة غياب التنسيق والتكامل في شبكات الطرق والبنية الحضرية الحالية في المدن السورية. من خلال ملاحظتي، أجد أن الطرق التي كانت مُصممة سابقًا لتكون شرايين رئيسية للتنقل، أصبحت اليوم غير فعّالة وظيفيًا. السبب في ذلك يعود إلى عدة عوامل، منها انتشار البناء العشوائي، وانعدام إشارات المرور، إضافة إلى كثرة الحواجز الإسمنتية أو الأمنية المؤقتة القديمة، التي حوّلت التنقل اليومي إلى فوضى مستمرة.

‏‏لقطة الشاشة 307

في الواقع، لا وجود فعلي لأنظمة نقل حضري جماعي حديثة؛ لا باصات كهربائية، ولا قطارات خفيفة، ولا حتى منظومات نقل عام فعّالة. المدن أيضًا تفتقر إلى أبسط متطلبات التنقل المستدام، كالممرات الآمنة للمشاة، أو ممرات مخصصة للدراجات، أو طرقات مريحة تتّسع لوسائل النقل الحديثة. هذا النقص الحاد في البنية التحتية أجبر السكان على الاعتماد شبه الكامل على السيارات الخاصة أو وسائل نقل بدائية، ما تسبب بازدحام مروري خانق، ورفع من معدلات الحوادث، وساهم في تفاقم التلوث البصري والهوائي، في ظل غياب الرقابة البيئية أو حلول النقل المستدامة.

image 1 5 edited

أما على صعيد توزيع الخدمات الاجتماعية، فالوضع لا يقل سوءًا. لاحظت أن العديد من الأحياء، خاصة في الضواحي والمناطق الريفية المتضررة، تفتقر إلى مرافق أساسية مثل المستوصفات، المدارس، والحدائق العامة. في المقابل، تتركز أغلب هذه الخدمات في مراكز المدن، مما يُعزز التفاوت المجالي، ويُعمّق الفجوة بين المركز والهامش، ويُولّد شعورًا بالتهميش الجغرافي والاجتماعي، إضافة إلى أنه يؤدي إلى التكدس السكاني في المناطق المُخدّمة.

‏‏لقطة الشاشة 309

إن الفوضى في التخطيط العمراني وتدهور توزيع الطرق والخدمات في سوريا 2025 لا يمكن اعتبارها مجرد نتيجة للحرب فقط، بل أيضًا نتيجة تراكمية لسنوات من الإهمال، وغياب السياسات الحضرية العادلة، وانعدام الرؤية التخطيطية المستدامة. ولذلك، أرى أن أي نهج لإعادة بناء المدن السورية لا بد أن يبدأ بإعادة هيكلة شاملة للبنية العمرانية وفق معايير العدالة المكانية والتوزيع المتوازن للخدمات.

انعدام المناطق الخضراء والفراغات الحضرية

من المؤلم أن أقول إن أغلب المدن السورية أصبحت، في واقعها الحالي، تُشبه الصحارى الحضرية.

5

فهي اليوم تحوّلت إلى فضاءات عمرانية خانقة، تعاني من انعدام المناطق الخضراء والفراغات الحضرية التي كانت تشكّل يومًا ما متنفسًا بيئيًا ومساحة للتفاعل الاجتماعي. الحدائق العامة التي كانت جزءًا أصيلًا من نسيج المدينة، إما دُمّرت بفعل القصف، أو زُرعت بالأبنية المخالفة، أو تُركت دون أي صيانة حتى جفّت المسطحات الخضراء وماتت الأشجار.

وفي كثير من الأحيان، استُخدمت الأشجار داخل المدن كوقود للتدفئة خلال فصول الشتاء القاسية بسبب نقص المحروقات، ما ساهم في تآكل الغطاء النباتي الحضري بشكل لافت.

image 1 7

غياب الفراغات الحضرية المفتوحة والممرات الهوائية لم يكن مجرد خلل شكلي، بل أدّى إلى انعكاسات بيئية وصحية مباشرة. فقد تسبب ذلك في تراكم الحرارة داخل الكتل السكنية، وارتفاع معدلات التلوّث الهوائي نتيجة انعدام التهوية الطبيعية، ما أدى إلى تراجع واضح في جودة الهواء. أما على الصعيد الاجتماعي، فقد غابت أماكن اللقاء والراحة والترفيه، وافتقد السكان للمساحات العامة التي تتيح لهم التفاعل والراحة النفسية، وهو ما زاد من مستويات الضغط النفسي، وساهم في خلق بيئات مغلقة ومختنقة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الحضرية المتوازنة.

وبصفتي مخططة مدن، أرى أن إعادة إدماج المناطق الخضراء والفراغات الحضرية في المدن السورية ليس ترفًا، بل ضرورة أساسية لتحقيق التوازن البيئي والاجتماعي والوظيفي في أي مشروع لإعادة الإعمار الحضري.

التلوث البصري والانهيار الجمالي للمشهد الحضري وفقدان الهوية المعمارية

من أكثر المشاهد المؤلمة التي ألاحظها اليوم في مدن سوريا، هو التلوث البصري والانهيار الجمالي للمشهد الحضري وفقدان الهوية المعمارية التي لطالما كانت تميز كل مدينة سورية بطابعها الخاص.

S 1

ما نراه اليوم في الفضاءات الحضرية هو مشهد يطغى عليه الخراب: مبانٍ مهدّمة أو نصف مهدّمة، أسقف مؤقتة مغطاة بالصفيح، أسلاك كهربائية عشوائية مكشوفة، ولافتات إعلانية مشوّهة تُعلّق بلا تنظيم. المدن التي كانت يومًا تحمل ملامح معمارية وهوية متكاملة تحوّلت إلى مساحات متنافرة، تفتقر لأي انسجام بين القديم والحديث، وتُعاني من فوضى عمرانية تعكس غياب الرؤية والرقابة.

image 1 8
سوريا22

ما يحزنني أكثر هو اختفاء العمارة السورية التقليدية التي كانت تجسّد روح المكان وتُراعي البيئة والمناخ المحلي.

البيوت الدمشقية بأفنيتها الداخلية ونوافذها المطعّمة بالخشب والزجاج الملون، والعمارة الحلبية بحجارتها السوداء وزخارفها الشرقية، كلها باتت مهددة أو مدمّرة أو محاطة بمبانٍ حديثة تفتقر إلى الذوق الهندسي والمعماري.

اليوم، تختلط الأبنية التاريخية المرموقة بعمارات مشيدة بسرعة وبتكاليف منخفضة، دون أي اعتبار للهوية أو الانسجام الجمالي، ما أدى إلى مشهد عمراني مُشوّه وغير متجانس، يفقد فيه المارّ القدرة على التمييز بين مدينة وأخرى.

image 1 9

هذه الفوضى البصرية لا تعبّر فقط عن تدهور في الشكل العام، بل تكشف عن فوضى أعمق في السياسات العامة، وغياب تخطيط طويل الأمد يحمي الهوية البصرية للمدن. من وجهة نظري، بات من الضروري اليوم إعادة الاعتبار للمشهد الحضري من خلال تبني رؤية تخطيطية تعيد التوازن البصري، وتحمي التراث المعماري، وتُحقق انسجامًا بين الحداثة والأصالة، بما يخدم التنمية المستدامة ويُكرّس هوية المدن السورية من جديد.

غياب قاعدة بيانات حضرية موثوقة

واحدة من أكبر التحديات التي نواجهها كمخططين اليوم هي غياب قاعدة بيانات حضرية موثوقة، دقيقة وحديثة، يمكن الاعتماد عليها في اتخاذ قرارات تخطيطية مبنية على الواقع. إذ لا تتوفر لدينا معلومات محدثة وموثوقة عن الواقع السكاني والعمراني في سوريا، وهو ما يُشكل عائقًا كبيرًا أمام أي محاولة لوضع رؤية حضرية فعالة.

4

لا توجد أرقام دقيقة حول عدد السكان الحاليين في كل منطقة، بسبب النزوح الجماعي، والهجرة الخارجية، والعودة غير المنظمة.

66 1

كما نفتقر إلى بيانات حيوية أخرى مثل التوزيع العمري، والكثافة السكانية، وواقع السكن، وتفاصيل البنية العقارية، والمواقع القابلة للبناء أو إعادة الإعمار، وحتى تصنيفات استخدامات الأراضي، جميعها شبه غائبة أو غير محدثة.

هذا الغياب في قاعدة البيانات الحضرية يجعل من الصعب جدًا وضع أي خطة تنموية واقعية. فكما أقول دائمًا: “لا يمكننا التخطيط لما لا نعرفه”. حتى الخرائط المكانية والبيانات الجغرافية، والتي يفترض أن تكون الأساس في عملنا كمخططين، غالبًا ما تكون قديمة أو غير دقيقة، وتعتمد المؤسسات على تقديرات ترجع إلى ما قبل الأزمة، ما يُفقدها قيمتها العملية.

في هذا السياق، أرى أن التخطيط الحضري في ظل غياب قاعدة بيانات حضرية موثوقة أشبه بمحاولة الإبحار في ظلام دامس، بلا بوصلة وبدون خريطة. الأمر الذي يؤدي إلى اتخاذ قرارات مرتجلة، غير مبنية على أسس حقيقية، ولا تستجيب للاحتياجات الفعلية للسكان.

7

لذلك، فإن معالجة هذه الفجوة لا تقتصر فقط على جهود إعادة الإعمار المادي، بل تتطلب في المقام الأول إعادة بناء القدرات المؤسسية، وتأسيس بنية معرفية قوية تشمل قواعد بيانات حضرية شاملة، وخرائط محدثة، وآليات دقيقة وموثوقة لجمع وتحليل البيانات. من وجهة نظري، هذه هي الخطوة الأولى والضرورية نحو أي تخطيط حضري عادل، واقعي، ومستدام يُعيد بناء سوريا على أسس معرفية راسخة.

الفرص من منظور التخطيط الحضري (Opportunities)

شريحة 1 1

الدعم الدولي المرتقب لإعادة الإعمار

رغم التعقيدات السياسية التي ما تزال تُخيّم على المشهد السوري، إلا أنني أرى، ومن خلال اطلاعي على تجارب دول أخرى عانت من الحروب، أن الدعم الدولي المرتقب لإعادة الإعمار قد يشكّل أحد أبرز الفرص من منظور التخطيط الحضري في سوريا. فقد أبدت العديد من الدول والمؤسسات الدولية رغبتها في المساهمة بعملية إعادة الإعمار، بشرط توفر حد أدنى من الاستقرار السياسي والأمني.

هذا الدعم، إن تم توجيهه بطريقة سليمة، يمكن أن يتحول إلى فرصة تاريخية غير مسبوقة، لا تقتصر فقط على إعادة بناء ما تهدّم، بل تمتد لإعادة تصميم المدن السورية من الأساس وفق مبادئ العدالة الاجتماعية، والاستدامة، والمساواة في توزيع الخدمات.

صناديق الإعمار التي تشرف عليها جهات مثل الأمم المتحدة، والبنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، تضع عادةً شروطًا تتعلق بالحوكمة، والشفافية، والتوزيع العادل. ورغم صعوبة تطبيق هذه الشروط في ظل واقع معقّد، فإن الالتزام بها قد يفتح الباب أمام بيئة تشاركية جديدة تضمن إعادة إعمار أكثر عدالة وفعالية. من وجهة نظري، يجب استثمار هذه الفرصة لتطوير بنية تحتية ذكية، تشمل الطاقة المتجددة، والمواصلات المستدامة، وأنظمة إدارة المياه والنفايات، بما يُعزز قدرة المدن السورية على التكيّف مع التحديات المستقبلية.

وأرى أن قطاع السياحة يمكن أن يكون من أبرز المستفيدين من هذا الدعم الدولي، خاصة في مشاريع ترميم المواقع الأثرية والتاريخية المتضررة. فبما أن سوريا تملك إرثًا حضاريًا يمتد لآلاف السنين، فإنها مؤهلة لاستعادة مكانتها كوجهة سياحية عالمية، من خلال تحديث البنى التحتية السياحية، وتحسين خدمات النقل والإقامة، وابتكار رواية ثقافية جديدة تعكس رحلة التعافي الوطني.

برأيي، الاستثمار في السياحة لا يُعيد فقط إحياء الذاكرة التاريخية، وليس مجرد ترف، بل فرصة حقيقية لتحفيز الاقتصاد المحلي وخلق فرص عمل مستدامة في قطاعات كالإرشاد السياحي، والضيافة، والحرف التقليدية، مع الحفاظ على الهوية الثقافية والحضرية للمدن السورية.

شريحة 11

فرصة لإعادة صياغة التخطيط الحضري من الجذور

أؤمن بأن الدمار الواسع، رغم قسوته، يمكن أن يشكّل نقطة انطلاق لإعادة التفكير في المنظومة التخطيطية بأكملها. فالمدن السورية، التي نشأت في كثير من الحالات بعشوائية أو وفق معايير تخطيط قديمة، أصبحت أمام فرصة لإعادة صياغة نموذجها الحضري من جديد، بما يتماشى مع متطلبات العصر.

بدلًا من إعادة إنتاج التخطيط التقليدي القائم على المركزية المُفرطة أو التوزيع غير العادل للخدمات، يمكن التوجّه نحو إنشاء شبكات طرق مرنة تتناسب مع حركة المشاة والمركبات العامة، وتصميم مساحات عامة متعددة الاستخدامات، وتوزيع الخدمات الاجتماعية والاقتصادية بشكل عادل بين المركز والأطراف.

كما أن هذه الفرصة تتيح لنا دمج مفاهيم حديثة في التخطيط، مثل المدن المقاومة للكوارث، والتخطيط القائم على المناخ، والبنية التحتية الخضراء. هذا الدمج لا يعزز فقط من مرونة المدن، بل يضمن قدرتها على التكيّف مع الأزمات البيئية والإنسانية القادمة.

إضافة إلى ذلك، فإن إعادة الصياغة التخطيطية تتيح خلق فضاءات حضرية تُعزّز من الجذب السياحي، من خلال الحفاظ على الهوية العمرانية التاريخية، وربطها بمرافق حديثة ذات جودة عالية. يمكن أن تتحوّل الساحات، والأسواق القديمة، والمناطق الأثرية إلى محاور تنمية حيوية، تربط بين الوظيفة السياحية والبعد الاجتماعي والثقافي، ما يُثري الحياة الحضرية ويمنح الزوار والمقيمين على حد سواء تجربة مكانية متكاملة.

شريحة 111

تفعيل القطاعات الإنتاجية وخلق فرص عمل في سوريا

مرحلة إعادة الإعمار تفتح الباب واسعًا أمام تفعيل القطاعات الإنتاجية وخلق فرص عمل في سوريا، شرط أن يتم ذلك وفق رؤية تخطيطية ممنهجة ومدروسة. هناك قطاعات اقتصادية حيوية يمكن أن تتحوّل إلى محرك فعلي للتنمية، مثل قطاع البناء والتشييد، والهندسة المدنية، وتخطيط المدن، والطاقة المتجددة، وإدارة النفايات الصلبة، والنقل الحضري.

إذا تم دمج التقنيات الحديثة ضمن هذه القطاعات، فإننا لا نتحدث فقط عن تحسين الكفاءة وتقليل التكاليف بما يناسب ظروفنا الحالية، بل أيضًا عن تقليص الأثر البيئي، وتحقيق معايير الاستدامة التي أصبحت ضرورية في أي مشروع حضري.

ما يجعلني متفائلة أن هذه القطاعات قادرة على استيعاب عدد كبير من الأيدي العاملة، خاصة من فئة الشباب. ومع برامج تدريب مهني حقيقية، وإشراك الجامعات والمعاهد التقنية، يمكن إعداد كادر وطني مؤهل يقود التنمية من الداخل، ويقلل من الاعتماد على الخبرات الأجنبية التي قد لا تتوافق دائمًا مع احتياجاتنا المحلية.

ولا يمكن إغفال قطاع السياحة كرافد رئيسي لفرص العمل السريعة والمباشرة. من خلال ترميم المنشآت السياحية، وتأهيل المواقع الأثرية، وتنظيم مهرجانات وفعاليات ثقافية، يمكن خلق آلاف فرص العمل في مجالات مثل الإرشاد السياحي، الضيافة، النقل، والخدمات. أرى أن هذا النوع من الاستثمار لا يُعيد فقط الحياة إلى المراكز التاريخية، بل يُسهم مباشرة في التخفيف من البطالة، وتحقيق عوائد اقتصادية ملموسة.

شريحة 1111

ربط سوريا بشبكات التنمية الإقليمية

بحكم موقعها الجغرافي الاستراتيجي، تقع سوريا في قلب شبكة اتصال حيوية بين أوروبا وآسيا والخليج العربي. ومع تحقق الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والأمني، يمكن لسوريا أن تستعيد دورها التاريخي كممر لوجستي واقتصادي مهم. الطريق الدولي M5، على سبيل المثال، يربط الجنوب بالشمال ويمتد إلى تركيا، ويمكن تطويره ليصبح جزءًا من شبكة نقل إقليمية تربط موانئ البحر المتوسط بأسواق الخليج وشرق آسيا.

هذا الموقع يؤهل البلاد لتكون شريكًا في مشاريع تنموية إقليمية مثل ممرات التجارة والطاقة، وخطوط السكك الحديدية، والمناطق الصناعية الحرة. ومن خلال التخطيط الحضري الذكي، يمكن تصميم مناطق اقتصادية خاصة ومراكز صناعية ولوجستية قرب المعابر الحدودية والموانئ، تُعزز من التكامل الاقتصادي وتُسهم في التنمية المتوازنة على الصعيد الوطني.

وبالمثل، فإن ربط سوريا بشبكات السياحة الإقليمية يمكن أن يُشكل مصدرًا جديدًا للدخل والتعاون الثقافي. فبمجرد تحقيق الاستقرار، يمكن إدراج المدن السورية التاريخية ضمن المسارات السياحية الكبرى في الشرق الأوسط، إلى جانب دول مثل الأردن ولبنان وتركيا. هذا التكامل يُعزز من حجم الزوار، ويُعيد سوريا إلى الخارطة السياحية العالمية كمركز للحضارات القديمة والتنوع الثقافي.

ختامًا لما يخص الفرص

انطلاقًا من كل ما سبق، أرى أن الفرص المتاحة أمام سوريا، رغم التحديات الكبيرة، يمكن أن تُثمر تحولًا نوعيًا في شكل المدن السورية ودورها الإقليمي، بشرط وجود قيادة تخطيطية واعية، وإرادة سياسية حقيقية، وإشراك المجتمع المحلي في رسم ملامح المستقبل. إن قطاع السياحة، إلى جانب التخطيط الحضري الذكي، والاقتصاد الإنتاجي المحلي، يمكن أن يُصبح أحد أعمدة النهوض الاقتصادي والاجتماعي، إذا ما تم استثماره ضمن رؤية شاملة تستند إلى العدالة والاستدامة والانفتاح على العالم.

لا يكفي أن نُعيد بناء ما تهدّم، بل يجب أن نعيد التفكير من الأساس في كيف تُبنى المدن، ولمن تُبنى، وبأي قيم وهوية.

التهديدات من منظور التخطيط الحضري (Threats)

0

هشاشة الوضع الأمني والسياسي في سوريا 2025

من خلال متابعتي المستمرة لتطورات المشهد السوري، أستطيع القول بكل وضوح إن هشاشة الوضع الأمني والسياسي في سوريا 2025 تُعد من أكبر التهديدات التي تواجه أي مشروع تخطيطي أو تنموي طويل الأمد. فحتى اليوم، ما زالت مساحات واسعة من البلاد خارج سيطرة الدولة المركزية، وتشهد تداخلاً معقّدًا بين قوى محلية وإقليمية ودولية، تتباين في أهدافها وولاءاتها، ما يُنتج حالة من اللايقين المستمر.

هذا التشرذم في السيطرة ينعكس مباشرة على غياب القرار الموحد، ويُعيق تنفيذ أي خطط مركزية تُعنى بإعادة الإعمار أو بالتخطيط العمراني المتكامل. كما أنه يُضعف التنسيق بين المؤسسات المعنية، ويجعل من الصعب بلورة رؤية وطنية جامعة في مجال التنمية الحضرية.

في ظل هذا الواقع، يصبح جذب الاستثمارات، سواء الخارجية أو المحلية، أمرًا شبه مستحيل. فالمستثمر، سواء كان شركة أو فردًا، يحتاج إلى بيئة مستقرة وآمنة تضمن حماية أصوله وحقوق عماله وتدفق موارده. كما أن غياب الأمان يؤثر بشكل مباشر على حركة التنقل بين المحافظات، ويُعيق توزيع الموارد والخدمات، ما يجعل المناطق الحدودية والريفية تحديدًا عرضة للتهميش، ويفتح المجال أمام مزيد من الفراغات التخطيطية التي يصعب إدارتها لاحقًا.

بالنسبة لي كمخططة مدن، أرى أن أي تخطيط حضري حقيقي لا يمكن أن يبدأ دون وجود بنية سياسية وأمنية مستقرة. غياب هذه القاعدة يُفرغ أي مشروع حضري من مضمونه، ويجعله مجرد حبر على ورق.

00

تغير المناخ وندرة الموارد الطبيعية

من التهديدات الخطيرة التي تزداد وضوحًا يومًا بعد يوم، هي تغير المناخ وندرة الموارد الطبيعية في سوريا. لقد أصبحت البلاد أكثر عرضة لموجات الجفاف الطويلة، وانخفاض في معدلات الأمطار، وتراجع في مخزون المياه الجوفية، ما ينعكس سلبًا على قطاعات حيوية وعلى مستقبل التخطيط الحضري بشكل عام.

هذه الظواهر المناخية تُشكل ضغطًا مباشرًا على قطاع الزراعة، الذي كان يُعد سابقًا من أعمدة الاقتصاد السوري. اليوم، نشهد تراجعًا في إنتاجية الأراضي الزراعية، وانخفاضًا في الأمن الغذائي، وزيادة في الاعتماد على الواردات، والتي أصبحت أصعب في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة. النتيجة هي تفكك اقتصادي في الريف، وتزايد في حركة النزوح من القرى نحو المدن، ما يُفاقم من مشاكل الكثافة السكانية والضغط على البنى التحتية الحضرية التي هي بالأصل ضعيفة ومتهالكة.

بالنسبة لي، كمخططة مدن، فإن ندرة المياه تحديدًا تمثل تحديًا جوهريًا في أي عملية تخطيط مستقبلي. المدن لا يمكن أن تنهض بدون إدارة ذكية ومستدامة لمواردها المائية. وهنا تظهر الحاجة لتبني حلول مثل حصاد مياه الأمطار، إعادة استخدام مياه الصرف، واعتماد تقنيات ري حديثة. لكن هذه الحلول، ورغم أهميتها، تظل غير متوفرة بشكل كافٍ، أو باهظة التكاليف في ظل الوضع الاقتصادي الحالي.

لذلك، أرى أن التغير المناخي لا يُهدد فقط البيئة، بل يُهدد أيضًا ركائز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، ويضعنا أمام تحديات حضرية لا يمكن تجاهلها، إن كنا نطمح لتخطيط مدن سورية قادرة على الصمود والمواجهة.

000

الانقطاع الديموغرافي وهشاشة التوزيع السكاني

واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا التي أواجهها كمخططة مدن عند التفكير في مستقبل سوريا، هي الانقطاع الديموغرافي وهشاشة التوزيع السكاني. فالحرب، وما تبعها من موجات نزوح داخلية وخارجية، أعادت تشكيل الخريطة السكانية بطريقة غير منتظمة، وخلقت اختلالات عمرانية وسكانية يصعب التنبؤ بها.

هناك مناطق كانت تعجّ بالحياة، أصبحت اليوم شبه خالية من السكان، في حين أن أحياء ومدن أخرى تشهد كثافة سكانية تفوق قدرتها على الاستيعاب. هذا الانفجار السكاني غير المخطط له في بعض المناطق، يُقابله فراغ عمراني في مناطق أخرى، مما يزيد من صعوبة توزيع الخدمات والمرافق العامة بشكل عادل ومتوازن.

ما يزيد الوضع تعقيدًا هو غياب إحصاءات سكانية دقيقة ومحدثة، إذ لم يُجرَ أي تعداد سكاني شامل منذ بداية الأزمة. من دون بيانات موثوقة عن عدد السكان، وتوزيعهم العمري والجغرافي، يصبح التخطيط للخدمات أو تقدير الحاجات السكنية أمرًا أقرب إلى التخمين. بل حتى خطط عودة النازحين واللاجئين تصطدم بهذه الفجوة، فلا توجد قواعد بيانات أو خطط استيعاب واضحة تساعد في دمجهم من جديد ضمن مجتمعاتهم الأصلية.

بالنسبة لأي مشروع حضري مستقبلي لا يمكن أن ينجح دون معالجة جذرية لهذا الانقطاع الديموغرافي، وتجاوز هشاشة التوزيع السكاني عبر بيانات دقيقة وخطط استيعابية واضحة.

0000

العقوبات والعزلة الاقتصادية

في الوقت الذي تحتاج فيه سوريا إلى تدفق كبير في رأس المال والتكنولوجيا والمواد الأساسية لإعادة الإعمار، تُشكّل العقوبات الدولية المفروضة عليها عائقًا بالغ الخطورة أمام تنفيذ أي رؤية تنموية. هذه العقوبات، سواء كانت مفروضة من الولايات المتحدة، أو الاتحاد الأوروبي، أو بعض الدول الإقليمية، تؤثر بشكل مباشر على قدرة الدولة على الاستيراد، والحصول على تمويل دولي، أو حتى التعاون مع مؤسسات دولية لتنفيذ مشاريع بنى تحتية أو تطوير عمراني.

كما أن العزلة الاقتصادية تسببت في تراجع كبير لقيمة العملة المحلية، وارتفاع أسعار المواد الأولية، وانخفاض القدرة الشرائية للسكان، ما جعل تنفيذ المشاريع على الأرض عرضة للتجميد أو الفشل، حتى إن توفرت النوايا والتصاميم. فالخطط النظرية قد تكون جاهزة، ولكن دون تمويل أو أدوات تنفيذ عملية، تبقى هذه الخطط حبرًا على ورق.

إلى جانب ذلك، فإن هذه العقوبات تطال أيضًا قطاع السياحة، الذي يُفترض أن يكون أحد موارد التعافي الاقتصادي، لكنها تعرقل حركة الطيران، والتحويلات المالية، والتعاون الثقافي، ما يقلّص فرص سوريا في استعادة مكانتها السياحية على المدى القريب.

كشخص مهتم بالتنمية الحضرية، أرى أن تجاوز هذه التحديات يتطلب حلولًا إبداعية، وبدائل محلية قابلة للتطبيق، وتعاونًا دوليًا مشروطًا بالشفافية والكفاءة.

الخلاصة من هذه التهديدات توصلنا لما يلي

إن التهديدات التي تواجه سوريا اليوم، لا تقتصر على الدمار المادي الذي خلفته الحرب، بل تمتد إلى أبعاد أعمق وأكثر تعقيدًا، تتعلق بالسيادة، والبيئة، والسكان، والاقتصاد. ومن هنا، فإن أي محاولة لبناء مستقبل عمراني مستدام يجب أن تُراعي هذه التحديات البنيوية، وتضع حلولًا ذكية وقابلة للتكيّف، وأن تقوم على أساس شفاف ومبني على بيانات دقيقة، وفي بيئة تتسم بالاستقرار والانفتاح والتكامل مع المحيط الإقليمي والدولي.

الخاتمة

يمثل تحليل الوضع الحضري في سوريا من خلال نموذج SWOT خطوة أولى وأساسية لفهم تعقيدات الواقع العمراني بعد أكثر من عقد من الحرب، والتمهيد لتخطيط منهجي يتجاوز المعالجات السطحية والترميم الجزئي إلى رؤية شاملة وعادلة. لقد أظهر هذا التحليل أن التخطيط في سوريا لا يمكن أن يُعالج كقضية هندسية أو عمرانية فقط، بل هو ملف مركّب يتداخل فيه البُعد السياسي مع البُعد الاجتماعي، ويتشابك فيه الجانب الاقتصادي مع الاعتبارات البيئية والديموغرافية.

سوريا اليوم ليست فقط بلدًا منكوبًا، بل ساحة مفتوحة أمام مسؤولية تخطيطية هائلة، تتطلب قرارات جذرية وإرادة مهنية حقيقية لإعادة تشكيل المدن والمجتمعات، لا على صورة ما كانت عليه قبل الحرب فحسب، بل بشكل يليق بالمستقبل ويضمن العدالة والكرامة لكل السكان. لقد بيّن تحليل نقاط القوة أن البلاد ما زالت تملك مقومات حضارية، وجغرافية، وبشرية يمكن البناء عليها، في حين كشفت نقاط الضعف عن هشاشة البنية التحتية، وفوضى التوزيع الخدمي، وغياب البيانات، وكلها تحديات لا بد من مواجهتها بشكل علمي ومدروس.

أما على مستوى الفرص، فإن الدعم الدولي المنتظر، إلى جانب إمكانيات التخطيط من الصفر في كثير من المناطق المدمرة، يفتح الباب أمام إنشاء مدن أكثر مرونة واستدامة، تُدمج فيها مفاهيم مثل العدالة المجالية، والاقتصاد الأخضر، والطاقة المتجددة، وإحياء قطاع السياحة ليعود أحد أعمدة التعافي الوطني. وفي المقابل، فإن التهديدات المتعلقة بعدم الاستقرار الأمني والسياسي، وتغير المناخ، والعقوبات الاقتصادية، والانقطاع السكاني، تفرض علينا اعتماد تخطيط وقائي واستباقي، مرن ومتعدد السيناريوهات.

لقد أصبحت الحاجة اليوم ملحّة إلى ما هو أبعد من ترميم الأبنية والشوارع، بل إلى إعادة إنتاج الحياة الحضرية بكامل أبعادها: العمرانية، والبيئية، والاجتماعية، والثقافية، والجمالية. إعادة الإعمار لا تعني فقط إعادة ما كان، بل خلق ما يجب أن يكون. وهذا يتطلب إشراك المجتمع المحلي، وتوفير أدوات علمية حديثة، وتعزيز القدرات التخطيطية في كل المستويات، من المركز إلى البلديات.

ا

وانطلاقًا من هذا الإطار التحليلي العام، سأنتقل في المرحلة التالية من هذه الدراسة إلى تحليل كل مدينة سورية على حدة، مستندةً إلى خصوصياتها التخطيطية، وواقعها السكاني والبيئي، ومستوى الضرر الذي طالها، مع التركيز على الفوارق بين المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص، والمناطق المهمّشة أو التي ظلت بعيدة عن مراكز القرار. الهدف من ذلك هو الوصول إلى خطط محلية تستجيب لحاجات كل مدينة، وتتكامل مع رؤية وطنية شاملة لإعادة بناء وطن يستحق أن يُعاد بناؤه، على أسس أكثر عدلاً، ووعيًا، واستدامة.

هل سيتم تحليل المدن السورية بشكل مفصل؟

نعم، سأقوم لاحقًا بتحليل كل مدينة سورية على حدة، بعد الانتهاء من الدراسة العامة للوضع الحضري في سوريا.

لماذا التخطيط الحضري مهم بعد الحرب؟

لأن إعادة الإعمار لا تعني فقط البناء، بل تعني تنظيم المدن بطريقة عادلة، مرنة، ومستدامة تلبي احتياجات الناس من كل الفئات العمرية والدينية والعرقية.

هل يمكن أن تساهم السياحة في دعم التخطيط الحضري؟

بالتأكيد، تطوير السياحة يُعيد إحياء المدن التاريخية، ويخلق فرص عمل، ويُحسن صورة المدينة بصريًا ووظيفيًا.

أي المدن السورية كانت الأكثر تضررًا من حيث التخطيط الحضري بعد الحرب؟

من وجهة نظري، حلب تُعد الأكثر تضررًا، خاصة في أحيائها الشرقية، من حيث الدمار والتخطيط العشوائي الذي تفاقم بعد الحرب.

يمكنك الاطلاع على مقالات أخرى مفيدة في الأسفل:

رابط التسجيل على إذن الزيارة إلى سوريا من تركيا | دليلك في تركيا

تحرير المقالة “رابط وطريقة التقديم على العودة الطوعية إلى سوريا من تركيا” › دليلك في تركيا — ووردبريس